تقارير وتحقيقات

البابا والحجّ إلى بيت إبراهيم

كتب سعد سلوم

أصبحت زيارة البابا ومنذ عقدَين من الزمن، مِرآةً لِمَا يمرُّ به العراق من تحوُّلات عميقة على المستوَيَيْن الاجتماعي والسياسي؛ إذ واجهَت مشروعاتُ الزيارات السابقة تحدِّيَاتٍ خلال العشرين سنة الماضية. فكانت الأُولى قد قُرِّرت في عهد البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، وبالتحديد في شهر كانون الأول/ديسمبر 1999، ضِمن جولة البابا التاريخية مع نهاية الألفيّة الثانية، لكنها أُلغيَت لأسباب سياسية، في وقت كان فيه “صدَّام حسين” يَحكم البلاد. أمّا الثانية، فقُرِّرَت بعد عشرين عاماً من إعلان الزيارة الأولى، لكنها أُلغيَت أيضاً لأسباب أمنيّة، إذ ذَكر وزير خارجية الفاتيكان الكاردينال “بيترو بارولين”، أنّ الحدَّ الأدنى من الشروط الأمنيّة “لم تكُن مُستَوفاة”، خلال زيارته للعراق في كانون الثاني/يناير الماضي.

في سياق استعداد أوساط فاتيكانية لتنظيم جدول الزيارة، فإن اختيار البابا الشخصيات التي سيقابلها، يُحدِّد قراءة معيَّنة لتوازنات القوى. فهل يزور البابا رئيسَ الجمهورية الكردي أمْ رئيس الوزراء الشيعي، أمْ رئيس البرلمان السُّنِّي؟ أمْ هل يَجمع الثلاثة معاً في رسالة، بِضرورة وَحْدة الجماعات الثلاث الكبرى في المجتمع العراقي (الأكراد، والسُّنّة، والشيعة)؟ لكن، قد لا يتصرف البابا كرئيس دولة هي الفاتيكان، بل كرأس الكنيسة الكاثوليكية في العالَم، ويزور تبعاً لذلك رجال الدين من رؤساء الطوائف المسيحية الأربع عشرة في العراق، وعلى رأسهم الكاردينال ساكو بطريرك بابل لِلكلدان الكاثوليك. وربما يُتاح له وقت قصير لزيارة الكنائس التاريخية المحرَّرة من داعش في المَوصِل، وقُرَى المسيحيِّين في سهل نينوى، في سياق ممارسة الدبلوماسية الفاتيكانية؛ بناءً على مقاربة غير سياسية أو مُسيَّسة.

ربّما يكُون تفكير البابا مركَّزًا على نطاق رمزيّ أوسع، انطلاقًا من الطابع التعدُّدي لبلاد ما بين النهرين، متضمِّنًا دعوةً إلى تغيير صورة نمطيّة عن البلاد. وتَبعاً لذلك، يمكن تَخيُّل أنْ يتضمن جدول الزيارة لقاء الزعيم الروحي للإيزيديِّين “بابا شيخ”، والصلاة في معبد لالش المقدس في منطقة شيخان، في ضوء التعاطف البابوي مع مأساة الإيزيديِّين/ات، والتطهير العِرقيِّ الذي تَعرَّضوا له على يد تنظيم داعش عام 2014. وقد يزور البابا أتباع يوحنا المعمدان من “المندائيِّين”، وهُم طائفة دينية أَلْفيَّة، يستقرُّ رئيسها الروحي في بغداد. وما يزالون ومنذ أكثر من ألفي عام، يمارسون طقس التعميد على ضفاف نهرَي دجلة والفرات.

في حال زيارة قداسة البابا العتبات المقدسة، مثل ضريح الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف، وضريح الإمام الحسين في كربلاء، وهُما أقدس مكانَين لدى الشيعة في العالم؛ فقد يُلازم مِثل هذه الخطوة لقاء تاريخي، يَجمعه في فاتيكان الشيعة بالمرجع الأعلى آية الله “علي السيستاني”، الذي يُعدُّ بمنزلة البابا بالنسبة إلى الشيعة. وإنْ جلس البابا مع المرجع الأعلى على فراش من حصير، في منزل آية الله المتواضع في أزقَّة النجف، فسيَعكس الاختيار دافعاً نبيلًا لرمزَين روحيَّيْن، يَحملان سِماتٍ مشتركة من التواضع والجوانب الروحانية في الأديان الإبراهيمية.

الثابت في جميع هذه الاحتمالات، إن زيارة قداسة البابا ستأخذ طابع الحج إلى بيت النبي إبراهيم، في أور الكلدانيين جنوبي البلاد. ومِن حيث أتى أبو الأنبياء والمؤمنين الموحدين/ات في اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن الخطوة تُشكِّل حدَثًا رمزيًّا فائق الأهمية، يؤكِّد عامل الوَحدة بين العراقيِّين/ات على اختلاف انتماءاتهم الدينية، ويؤسِّس تقليداً “مسيحيّاً/إسلاميّاً/ يهوديّاً”، للحجِّ إلى مكان، يَجمع في مشترَك سُلاليٍّ روحيٍّ واحد، جميعَ سكان الشرق الأوسط من أتباع الديانات الكبرى الثلاث.

 

م/ المدى

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى